خلق السماحة والتلطف واللين
خلق السماحة والتلطف واللين
فضيلة الشيخ عمر القزابري
تاريخ النشر : 2017-03-04 – 1438/06/05
ملتقى الخطباء
عناصر الخطبة
1/ فضائل حسن الخلق 2/ أهمية السماحة والصبر 3/ حاجة الدعاة إلى الأناة والصبر 4/ عظم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 5/ فضل السماحة والصبر.
اقتباس
وما أحوج أهل العلم اليوم وأهل الدعوة والخطباء والوعاظ والأمة خاصة إلى خُلق اللين التلطف في زمن وجهت فيه سهام الطعن إلى ديننا من كل جانب. ما أحوج الدعاة والخطباء والأئمة إلى أن يكونوا رحماء تعلوهم السماحة ويكسوهم الرفق ويزينهم اللطف، لماذا الغلظة والعنف والشدة لماذا؟ من تكون أنت حتى تتعسف على الناس وتشدِّد عليهم من تكون؟ هذا سيدك وسيد العالمين كان رحيمًا ودودًا بسَّامًا لطيفًا رفيقًا. إن دعوة إلى الله لا تغلَّف بالسماحة هي دعوة ميتة في مهدها، والله غني عنك وعن دعوتك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: أكرم الله المسلمين بهذه الرسالة العظيمة التي تحمل كل مقومات الإسعاد والإرشاد والإعداد والإمداد، هذه الرسالة العظيمة الجامعة الخاتمة التي تحمل عنوان الرشد (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) [الجن: 14].
فهي رسالة رشد وإرشاد ومن ثَم فإنه لا يليق بالمنتسب إلى هذه الرسالة العظيمة إلا أن يكون راشدًا يعرف أين يضع القدمين مسترشدًا بأنوار الوحي المرقي، الوحي الذي انتشل أمة من الضياع والصراعات والحروب والسباب ليضعهم فوق سماء المجد والرقي عندما جاءت الرسالة الخاتمة وجدت العرب في خصومات وصراعات وعداوات وحروب لأجل أمور تافهات فتسربت أنوارها لتداعب الأفئدة ولتطهر الجوارح ولترقي الأفكار فإذا بأعداء الأمس إخوة يؤثر بعضهم بعضًا ويتفانى بعضهم في خدمة بعض.
قال تعالى (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) أي بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ورسالته (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
تذكير بالنعمة في سياق الامتنان، تذكير بأن نعمة الأخوة نعمة عظيمة ومنة جليلة، وأن تحقيق الأخوة مقدمة للنجاة من النار؛ فالإسلام دين الأخوة، وكل تديُّن لا يحمل هذه المعاني ولا يجعل الأخوة الصادقة من أولى اهتماماته هو تدين مخذول معدوم.
أيها الأحباب: إن حال الأمة اليوم يستدعي التدارك والتشارك لا الخلاف والتعارك، يستدعي منا إذا كنا راغبين حقًّا في نجاة أنفسنا وأمتنا أن نتمثل حقائق الدين وأن نعيشه واقعًا عمليًّا في شؤون حياتنا، وأن نتعاطى معه بفهم سلف الأمة الذين تلقوه عذبًا وسلسلاً، فإن الإسلام دين حياة، وأن الحياة لا تكون في مسجد فقط في المسجد فقط ولكن في المسجد والبيت والشارع والعمل والأسواق وفي كل حركة وسكون.
ينبغي أيها الأحباب أن نخضع لهذا الدين إن كنا صادقين، إنها كلمات الله التي تمت صدقًا وعدلاً، قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ) [الأنعام: 115].
فرسالة بلغت التمام في الصدق والعدل لا بد أن تتلقى منا بغاية الصدق خصوصًا وأننا حملة الأمانة، وهذه الأمانة ليست أمانة عادية من فلان إلى فلان، ولكنها أمانة الله وأمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكل تفريق أو تراجع أو تهاون أو تلاعب قد يدخل عياذًا بالله في باب الخيانة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
أيها المسلم: أنتَ أنت وارثُ سرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت أنت مكلَّف بحمل أمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندما توضع في قبرك الذي هو أول منازل الآخرة عندما يضعك أهلك وأحبابك في تلك الحفرة ثم ينصرفون عنك ويتركونك وحيدًا فريدًا غريبًا يضعونك هناك، ثم يهيلون عليك التراب، هنالك ستسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن أمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن مدى اتباعك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وستجيب بمقتضى ما عشت عليه الآن في حياتك (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [يونس:30].
أحبابي: إن من أوجب الواجبات علينا اليوم أن نرد للدين هيبته ولا يكون ذلك إلا بأن نتمسك به ونجعله ظلاً وفراشًا وشعارًا ودثاراً وغطاءً ووِقاءً فإن لنا جميعًا موعدًا لن نخلفه عندما يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم مشهود بين يدي الله ليشهد علينا، قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء:41].
إنها الآية التي أبكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قرأها عليه ابن مسعود قال ابن مسعود “فنظرت فإذا عيناه تزرفان ويقول حسبك حسبك”.
بكى -صلى الله عليه وسلم- وهو الشاهد فكيف بالمشهود عليهم؟
لقد ترك لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أمانة ووصية عظيمة في يوم عظيم في يوم عرفة في حجة الوداع؛ حيث قال سيدي وتاج رأسي -صلى الله عليه وسلم-: “وكونوا عباد الله إخوانًا”، إنها دعوة تخترق حجب الزمان لتلفت نظرنا إلى قضية الأخوة، وأنه لا يمكن لنا أن نحقق الأخوة إلا بتحقيق خُلق عظيم إنه خُلق السماحة، وما أحوجنا إليه اليوم في زمن الاحتقان والتبلد والعصبية في ظل النرجسية وحب الذات والتعالي.
ما أحوجنا إلى هذا الخلق العالي الغالي الذي يضفي على الحياة طعم الجمال والسعادة والطمأنينة، والسماحة لغة هي السلاسة والسهولة، أما في الاصطلاح فتُطلق على معنيين الأول: بذل ما لا يجب تفضلاً، والثاني: في معنى التسامح مع الغير في المعاملات المختلفة ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها التي تتجلى في التيسير وعدم القهر، قال تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
قال أهل العلم “هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملاتهم، فالذي ينبغي أن يُعامَل به الناس أن يأخذ العفو أي: ما سمحت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، ونفى الله عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- الفظاظة وغلظ القلب فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
أي برحمة الله لك ولأصحابك منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبًا، وخفضت لهم جناحك وترفقت عليهم، وحسَّنت لهم خُلقك فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك.
تأملوا قوله تعالى جيدًا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)، فاللين رحمة من الله يرحم بها من يشاء من عباده ليدخلهم إلى رياضه وحياضه ويرزقهم القبول عند خلقه؛ فالعبد اللين محبوب عند الله وعند خلقه، والعبد القاسي المتسلط المتجلد الصلب ممقوت عند الله وعند خلقه.
وما أحوج أهل العلم اليوم وأهل الدعوة والخطباء والوعاظ والأمة خاصة إلى خُلق اللين التلطف في زمن وجهت فيه سهام الطعن إلى ديننا من كل جانب.
ما أحوج الدعاة والخطباء والأئمة إلى أن يكونوا رحماء تعلوهم السماحة ويكسوهم الرفق ويزينهم اللطف، لماذا الغلظة والعنف والشدة لماذا؟
من تكون أنت حتى تتعسف على الناس وتشدِّد عليهم من تكون؟ هذا سيدك وسيد العالمين كان رحيمًا ودودًا بسَّامًا لطيفًا رفيقًا.
إن دعوة إلى الله لا تغلَّف بالسماحة هي دعوة ميتة في مهدها، والله غني عنك وعن دعوتك.
بعض الدعاء وخطباء اليوم نشاهد فيهم غلظة وجفافًا وسوء خُلق، هوِّن عليك فما الناس بحاجة إليك.
يقول سيدي -صلى الله عليه وسلم-: “ألا أخبركم بمن تحرم عليه الناس؟ على كل قريب هين سهل”، والمعنى تحرم النار على كل سهل طلق حليم لين قريب من الناس سهل في قضاء حوائجهم رحيمًا بهم في دعوتهم صبورًا على هفواتهم ناشرًا البسمة في وجوههم فهذا المتصف بهذه الأوصاف تحرم عليه النار.
وهذه بشارة عظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فتح لأحبابه أبواب معرفته، ووفقهم للسماحة مع خلق وجعل الخلق الحسن أثقل ما يوزن في الميزان وينفع العبد يوم لقاء الملك الديان أحمده تعالى وهو المحمود في كل آنٍ وأصلي وأسلم على النبي المصطفى سيد ولد عدنان إمام السماحة والرفق والإحسان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتبعهم بإحسان إلى يوم الميزان.
معاشر الإخوة: والسماحة لا تشمل جانبًا واحدًا فقط، وإنما تشمل كل الجوانب وتعم كل صور التعامل فهي خُلق ينبغي أن يعالجه المسلم حتى يصير عادةً وسلوكًا، فعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” (رواه البخاري).
قال ابن بطال -رحمه الله- معلقًا على الحديث “فيه الحضُّ على السَّمَاحَة، وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحَّة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النَّبي عليه الصلاة والسلام لا يحضُّ أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة”.
وهذا الحديث أيها الكرام فيه دعاء من سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل رحمة لمن اتصف بالسماحة ودعاء رسول الله مجاب بلا شك، وقد يكون دعاء وقد يكون خبرًا، إلا أن قرينة الاستقبال المستفادة من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “رحم الله عبدًا سمحا إذا” “إذا” تجعله دعاءً من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل السماحة.
فيا معاشر التجار ويا أصحاب المشاريع ويا أيها الموظفون السماحةَ السماحة الرحمةَ الرحمة الرفقَ الرفق، بعض التجار اليوم لا يهمهم إلا الربح سواء بالخداع أو التزوير أو الغش أو الكذب.
إن رزقك مضمون وإن أجلك محدود، فلماذا التحايل على من تتحايل!! أتتحايل على الذي يعلم السر وأخفى؟!
كن سمحًا هيِّنًا، خذ حقك لنفسك، وارفق بأخيك واصدق، فإن الجوارح شاهدة بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، وإياك والحلف الكاذب، إياك ثم إياك فقد قال سيدك -صلى الله عليه وسلم- واستمعوا لهذا الحديث: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم” كررها ثلاث مرات..
“خابوا وخسروا” قال أبو ذر من يا رسول الله ؟ قال: “المسبل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب” (رواه مسلم).
والذي يروِّج مبيعه وبضاعته بذلك ومن صوره أن يحلف كذبًا أنه اشتراها بكذا وكذا أو أنه أعطى فيها كذا وكذا، أو أنها أصلية وجيدة ونحو ذلك مما يرغِّب فيها فتُشتَرى منه وهو يعلم خلاف ذلك.
بل إن التاجر ينبغي أن يتجنب الحلف ولو كان صادقًا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- “الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة”.
هؤلاء لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم، لماذا؟ لأنه يستخفون بنظر الله، يؤذون أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فليست المسألة مسالة شطارة أو نباهة أو احتيال أو ذكاء؛ فإن كل ذلك سيفنى وستأتي الحقائق يوم لقاء الله ظاهرة ماثلة على رؤوس الأشهاد (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
ومن صور ذلك التطفيف في الكيل وهو الغش في الميزان قال تعالى في آية يشيب لها الولدان (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:1- 6].
يوم يقوم الناس هنالك في ذلك الموقف تخونك شطارتك وتخذلك حيلتك وتفنى ألاعيبك قال نبي الله شعيب عليه السلام لقومه: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء: 181- 183].
وقال تعالى حاكيًا عن إخوة يوسف وهم يخاطبون يوسف عليه السلام: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف:88]، فأنت عندما توفي للزبون فإنها تكون صدقة متقبلة عند الله، هو الذي يتولى جزائك عليها يوم تقف بين يديه يقول -صلى الله عليه وسلم- محذرا “إِنَّ التُجَّارَ يُبعَثُونَ يَومَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَن اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ” (أخرجه الترمذي وصححه الألباني وغيره).
وفي المقابل يقول -صلى الله عليه وسلم- مبشرًا: “التاجر الصدُوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” فتلطفْ أيها التاجر وتعطَّفْ ولا تتعسف وتتأفف، ولا تمدن عينيك إلى جيوب الناس، ولكن مُدَّ قلبك إلى رب الناس، وراعِ أحوال الناس؛ فإن الله يجزي المتصدقين وإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ..”.
هنا تأدب فالمال مال الله (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)، (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) فالمال مال الله.
قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ –أتجاوز- فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي” (رواه البخاري ومسلم).
فهذا عبد ليس له من الأعمال الصالحة إلا هذا العمل أنه كان يمهل المعسر الذي لا يجد ما ينفقه إما يسامحه أو ينقصه أو يمهله، فجُوزِيَ بالجنة، فأنت مثلا أيها الطبيب لا بأس أن تخفِّف عن الفقير وتعامله على وجه الإشفاق، لعل الله يجعل لك ذلك شفاعة يوم لقائه،
وكذلك الموظف المسئول وغيرهما من كل الفئات انشروا السماحة تزينوا بالرفق؛ فإن الدنيا زائلة وإنك لن تخرج منها بغير القطن والكفن..
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح بغير القطن والكفن؟!
لا تكن عنيفا فتُقرَع ولا يابسًا فتُهجَر ولا سليطًا فتترك، ولكن كن سمحًا لطيفًا برًّا كريمًا تقضي حوائج الناس؛ فإن الذي يقضي حوائج الناس وينفث كربتهم وييسر على معسرهم ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “من نفَّس عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة..”.
هذا وحي هذا كلام رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى فلنتعاطى معه بصدق ويقين “ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..” (رواه مسلم).
فيا أيها المحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقد كان سيدك -صلى الله عليه وسلم- سمحا في تعامله وهو المثل الأشمل في السماحة.
يحكي لنا أنس -رضي الله عنه- ما لقاه من النبي -صلى الله عليه وسلم- من حسن المعاملة فيقول: “خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ , فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ , لِمَ صَنَعْتَهُ , وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ , لِمَ تَرَكْتَهُ ؟..”.
وعنه أيضًا قال ” كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقًا فأرسلني يومًا لحاجة فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس –داعبه حتى في النداء، التلطف والخلق العالي- ذهبت حيث أمرتك. قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله” (رواه مسلم).
ومن سماحته -صلى الله عليه وسلم- قضاء حوائج الناس فعن أنس -رضي الله عنه- قال: “إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ” (رواه البخاري).
ومن سماحته -صلى الله عليه وسلم- تعامله مع الأعرابي الذي جذب ردائه بشدة يأمر له بعطاء فعن أنس -رضي الله عنه- قال: “كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ورجع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في نحر الأعرابي حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه -صلى الله عليه وسلم- ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء”
بالله لو أي واحد تصرف معك هذه الصورة لكانت النهاية في مخفر الشرطة أو المحاكم لأننا بعدنا عن هذا المنهل الصافي العذب الرقراق.
نسأل الله أن يردنا إلى هذه المعاني وإلى هذه الأذواق ردا جميلا..
اللهم أصلح أحوالنا..